بقلم وليد عبد الحي
يمثل قرار تأجيل القمة العربية الخاصة بقطاع غزة وتداعياته مؤشر شؤم على التوجهات الدبلوماسية العربية والدولية ، فالتبرير للتأجيل بذرائع لوجستية يثير السخرية المُرة، إذ من الواضح ان جدول الاعمال للمؤتمر هو سبب التأجيل ، واجزم ان الاستراتيجية العربية التي سيتم طرحها- إذا تم عقد القمة- تتسق في جوهرها –لا في انشائيتها- وبنسبة عالية مع الاستراتيجية الامريكية الاسرائيلية في الجوانب التالية :
أولا: القواعد العامة: وتتمثل في :
أ- التضييق العربي والدولي بأكبر قدر ممكن على المقاومة الفلسطينية في الاراضي المحتلة وبكل السبل السياسية والعسكرية والمالية والاعلامية.
ب- افشال النموذج الإخواني المقاوم لحساب النموذج الإخواني المساوم( طبقا لتوصيات دراسات Rand Corporation, بل واطروحة التخرج للرئيس السيسي في الكلية العسكرية الامريكية).
ت- استثمار التراجع الحاد في ثقل محور المقاومة بخاصة في لبنان والعراق وفلسطين وسوريا .
ث- محاولة امتصاص زخم مبادرة الرئيس ترامب من خلال زيادة جرعة الاستثمارات بخاصة الخليجية في دولاب الاقتصاد الامريكي ، بل والتنسيق في مجالات النفط (الاسعار وكميات الانتاج) وحجم التجارة مع الولايات المتحدة على حساب حجم التجارة مع الدول الاخرى بخاصة الصين ، او بزيادة دول الخليج مشتريات السلاح الامريكي .
ج- ضمان عدم المساس باتفاقيات التطبيع بأي شكل من الاشكال بل وعدم السماح بطرح الموضوع، بل يلاحظ ان بعض الدول العربية الجمهورية بدأت تحوم حول الحمى في هذا الموضوع .
ح- محاولة الغواية لليمن(أنصار الله) للتراجع عن موقفه أو العمل بسرية تامة لاختراق هذه الجبهة من خلال التعاون بين الاجهزة الامنية العربية والامريكية والاسرائيلية.
ثانيا: استثمار تشقق البنية العربية :
ان الخلافات الكامنة بين الدول العربية سيتم توظيفها من الولايات المتحدة ومن الدول العربية ذاتها، فالعلاقة الخليجية فيها إحنٌ كامنة بين الثالوث :قطر والامارات والسعودية حول موضوعات عديدة مثل : من يكون قاعدة الارتكاز الامريكي في الخليج ؟ ، ومن يتولى دبلوماسية الإنابة ؟ ومن يدعم الجيش السوداني ومن يقف مع قوات الدعم السريع؟ ما هي حدود المساندة لجماعة الاخوان المسلمين؟ وهناك في المغرب العربي إحنٌ لا تقل خطورة ، فعدم الاستقرار في ليبيا ، والاضطراب في الادارة التونسية ، ناهيك عن ما تحت الرماد بين المغرب والجزائر..الخ.
ثالثا: معركة اعمار غزة( ويتبعها الآن معركة اعمار المخيمات في جنين وما حولها، ومعركة اعمار الجنوب اللبناني والضاحية الجنوبية في بيروت)، وهنا لا بد من التوقف عند مؤشر خطر بخاصة في موضوع اعمار غزة ، فمن الواضح ان مصر تسعى لجني اكبر قدر من “المكاسب المالية” في هذا الموضوع من خلال:
أ- الابتزاز المالي لرسوم ادخال الشاحنات دون اية مراعاة لظروف الادارة الحكومية في قطاع غزة او ظروف المجتمع الغزي ذاته، فالارقام الفلكية التي اصبحت مؤكدة حول الرسوم على دخول وخروج الافراد أو رسوم ادخال الشاحنات او المعدات الثقيلة او حتى التلاعب بالسلع واستبدالها تشير الى مشاركة في مزيد من الضغط على المواطن الغزي وتعطيل تدفق المساعدات بل وجعل الرقيب الاسرائيلي طرفا في تحديد العلاقة المصرية الفلسطينية على الحدود بين مصر وقطاع غزة.
ب- من المؤكد ان مصر ستسعى لأن تكون الشركات الخاصة بالجيش المصري او الشركات المصرية المدنية الاخرى هي صاحبة نصيب الاسد في مشاريع الاعمار ، ورغم ان بعضا من هذه المساعي تبدو مبررة ، الا ان جعل الكسب المالي يعلو على التضامن العربي والاسلامي والأخلاقي مع شعب منكوب امر مريب،لاسيما أن معدل الفساد في مصر طبقا لتقرير الشفافية الدولية لعام 2024 هو 70%، وبزيادة 5% عن العام الماضي ،وهو ما يجعل مصر تحتل المرتبة 130 ( بين 180 دولة) في مؤشر الفساد.
ت- تحرص الادارة المصرية على قتل صورة ” التضحية والمقاومة” التي ابدتها المقاومة الاسلامية في غزة لكي لا يكون ذلك نموذجا لتعزيز الجناح المقاوم في الاخوان المسلمين داخل مصر .
ان التلكؤ في بدء الاعمار تحت ذرائع “لوجستية” او بافتعال خلافات عربية عربية، او بانشاء لجان للنظر ثم لجان فرعية هي تكتيكات مألوفة في الدبلوماسية العربية للهروب من الالتزامات وتحميل المسؤولية للآخرين، وهو ما يضيف عبئا على عبء على كاهل المواطن الغزي مما قد يدفعه الى التفكير في الهجرة، بل ان قناة فضائية عربية (تلفزيون العربي) بثت قبل ايام تقريرا مفصلا عن تسهيلات الهجرة الى كندا(الاستجابة السريعة لطلبات الهجرة، تتحمل السلطات الكندية كل تكاليف السفر والاقامة ، والعمل على ضمان ايجاد وظائف…الخ)، وقد نرى تسهيلا مشابها نحو دول الخليج بل وثمة من يفكر في احلال العمالة الفلسطينية محل العمالة الآسيوية في الخليج…وهكذا يتكامل الفساد المصري مع الغواية العربية والغربية لخلع الفلسطيني من وطنه.
رابعا: تعطل طرق الامداد للمقاومة اللبناينة وتعطل دور المقاومة العراقية:
تشير بنية السلطة في كل من العراق وسوريا الى ما يمكن اعتباره بيجرز (Pagers) سياسي لا الكتروني في كل منهما، وسيتم تفجيره في الوقت الذي يرى زارعه انه الانسب، لا سيما ان الضغط على الطرفين بدأ يتراخى، كما أن حزب الله يثير العديد من التصريحات التي يشير بعضها للانهاك من ناحية وللاستعداد للانسحاب التدريجي من الميدان العسكري من ناحية ثانية، ناهيك عن اهتزاز عميق لصورة قيادة الحزب بل وأداء الحزب، وهو ما يتضح في قبوله التواري عن جبهة الجنوب واعتبار الامر من مسئولية الدولة ” حصرا” كما ورد في ادبيات الحزب الاخيرة على لسان قادته الجدد ، وهي صورة لا تختلف كثيرا عن المشهد الصارخ في الجنوب السوري وعلى جبهة الجولان حيث ترسم اسرائيل الحدود دون ان تتلقى ولو ادانة شفوية من المعنيين ، بل بدأنا نقرأ تقارير عن وفود من الحاخامات اليهود تزور سوريا، ثم هناك التسامح امريكيا واوروبيا مع النظام الجديد من حيث تصنيفه السياسي او رفع الحصار عنه، دون الكشف عن دوافع هذا الكرم الغربي، فطبقا للقائمة المنشورة من وزارة الخزينة الامريكية هناك 38 طرفا خاضعا للحصار، لكن رفع الحصار احيانا يتم بعد استجابة هذه الاطراف للشروط الامريكية، فهل للادارة السورية الجديدة- التي تدعي الشفافية ومكاشفة الشعب- ان تكشف لنا ما هو مضمون الحوار الامريكي السوري لرفع الحصار؟ وما هي شروط رفع الحصار ،وهل لذلك علاقة بتوطين الفلسطينيين واجتثاث تنظيماتهم وربما الاعتراف باسرائيل او التطبيع الناعم .؟ نريد ان نعرف، فالصمت مخيف ومريب.
خامسا: سلطة التنسيق الامني والدور الوظيفي:
تزداد قتامة الصورة بالدور “غير المفاجئ” لسلطة التنسيق الامني، فهي ليست معنية بدحر الاحتلال بمقدار عنايتها ” بضمور قوى المقاومة والتضييق على دورها السياسي في إدارة الشأن الفلسطيني”، وهو دور ليس منفصلا عن دورها الامني المنصوص عليه في ملحق التنسيق الامني منذ أوسلو وما بعدها، بل انها قررت وقف الرواتب الشهرية لاسر الشهداء والأسرى .
لكن الاحتمال الاسوأ هو ان يجري الضغط على المقاومة للافراج عن الاسرى الاسرائيليين دفعة واحدة، وهو ما سيحرر نيتنياهو من أغلب الضغوط الداخلية عليه، ويجعله قادرا على استئناف القتال بهدف “اجتثاث المقاومة من القطاع” وفتح الطريق للهجرة ، وهو امر تتضح معالمه في جنوب لبنان ، فقد أجل نيتنياهو موعد الانسحاب وقبل لبنان والعرب ذلك، ثم اقام مواقع عسكرية في داخل لبنان ولم يجد أي رد سوى التصريحات المعهودة، وعادت المقاومة المنهكة الى حصر المسؤولية بيد الدولة اللبنانية.
سادسا: الأفق المتوسط:
بالمقابل، فان اسرائيل ترى أن الحل الجذري لمشكلتها هي تهجير الفلسطينيين الى الخارج، لان الدبلوماسية الاسرائيلية لا تريد العودة لنقاش حل الدولتين الذي يحظى بالتأييد الدولي الاوسع بين بدائل التسويات الاخرى، بخاصة ان ترامب لا يقيم اي وزن لهذا البديل ولم يشر له البتة. فالقبول بحل الدولتين( بغض النظر عن أوزاره) يعني حربا اهلية في اسرائيل، لان ال 780 الف مستوطن في الضفة الغربية لن ينسحبوا في ظل حكومة تؤيدهم وسيطرة النزعة التوراتية عليهم، وهم يعتقدون ان العرب سيتقبلون الضم تدريجيا ، وهو ما يشير له تاريخ الصراع بين الطرفين.
ان نيتنياهو يبني استراتيجيته على ان العرب سيقبلون كل طلباته، ولكن القبول يتفاوت في سرعته من دولة لاخرى ، فبعضها يقبل مباشرة وبسرعة ،وبعضها يضع شروطا لكنه يسمح للطيران الاسرائيلي لعبور اجوائه ،ويسمح بدخول السائح الاسرائيلي، وهكذا تدريجيا ، وهناك دول تدعي عدم التطبيع ولا ترى ان مكاتب الموساد فيها نوع من التطبيع..
أخيرا..
اننا امة تقوم دبلوماسيتها على ان “خصوم الامة هم حلفاء الأنظمة “، فكيف تستقيم الامور في وضع كهذا؟ ونحن امة تعلو مصالح انظمتها على مصالح المجتمع والدولة، فكيف لا يكون هذا اقصر الطرق لبلوغ الكارثة ؟
ان اوروبا وامريكا بخاصة مع ترامب، لن تعيد النظر في سياساتها تجاه الموضوع الفلسطيني الا بمقدار الخطر الذي تتوجسه على مصالحها الاستراتيجية والتكتيكية، فلماذا لا تكون لغة المصالح – مصالح الدول والمجتمعات- هي قاعدة السلوك السياسي العربي؟ ولماذا لا يكون اسناد المقاومة هو اداة من ادوات الضغط ؟ دون ذلك سنحصد المزيد من الخيبة، ثم سنتغنى بحكمة القيادات..ربما.