بقلم وليد عبد الحي
• تشكل مراكز الابحاث الاسرائيلية وافتتاحيات الصحف الاسرائيلية والمقابلات الاعلامية للنخب الفكرية الاسرائيلية المدخل الانسب للإطلال على ما يدور في “العقل الصهيوني”، ومن هذا المنطلق سعيت لتحديد نقاط القوة والضعف في هذا الكيان الذي يشكل آخر مظاهر الاستعمار الاستيطاني على النحو التالي:.
أولا: نقاط الضعف:
1- الحروب الممتدة وعدم الاستقرار: شهدت اسرائيل ثلاثة انماط من الحروب: الحروب الرسمية التي قادتها الدول العربية بجيوشها، ثم حروب العصابات التي مارستها تنظيمات عربية متباينة التوجهات الآيديولوجية، وثالثا الحروب المختلطة التي تجمع بين النمطين السابقين، ويصل عدد الحروب الرسمية الى أربعة حروب(1948 و 1956 و 1967 و 1973) اي ان معدل الفاصل بين الحروب الرسمية كان حوالي 8 سنوات، اما الحروب الشعبية(العصابات) فهي ظاهرة عرفت تذبذبا من ناحية، ومن ناحية أخرى عرفت مستوى حدة ضعيف خلال الفترة من 1948 الى 1968، ثم تواصلت بتذبذب آخر ولكن بحدة اعلى من المرحلة السابقة حتى يومنا هذا، اما الحروب المختلطة فهي حروب محدودة التكرار ومحدودة التاثير في بعض سنوات الثمانينات والتسعينات وبمشاركات رسمية محدودة النطاق (المواجهات مع سوريا في لبنان او الضربات الصاروخية العراقية في فترة حرب الخليج الثانية..الخ).
ولعل دراسة ما سبق يشير الى أن النمط المستمر والمتزايد هو نمط الحروب الشعبية ، والتنوع الآيديولوجي لهذه التنظيمات ، فنحن نرى ان هذه التنظيمات عبرت الآن حدود الآيديولوجيا بل والمذاهب ووصلت الى مرحلة ” محور المقاومة” الذي يجمع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين (الماركسية، مع تنظيمات المقاومة الاسلامية) وتجمع حزب الله والحشد الشعبي وانصار الله ( محسوبون على المذهب الشيعي) مع حماس والجهاد الاسلامي والجماعة الاسلامية (المحسوبون على تيار الاخوان المسلمين السنة)ن وهو ما يعني التغلب التدريجي للاستراتيجي على التكتيكي.
وما يقلق النخب الاسرائيلية هو ان ظاهرة التنظيمات الشعبية وحروب العصابات تتزايد من ناحية وتتطور في امكانياتها من جانب ثانٍ ،ناهيك عن استقطابها الواسع للتاييد الشعبي طبقا لكل استطلاعات الراي العام العربي بل والاسلامي والتحرري بشكل عام، أضافة الى استمراريتها دون انقطاع من 1968 الى الآن ، ولعل هذا ما يقلق النخب الصهيونية، ناهيك عن ان المستوى الثقافي لعناصر هذه التنظيمات يتطور معرفيا وتقنيا، وهو ما نراه في غزة وجنوب لبنان.
وما يقلق العقل الصهيوني ان الاتجاه الأعظم (Mega trend) يشير الى ان عدد المستعمرات التي تحررت من الاستعمار منذ 1948( عام تاسيس اسرائيل) هو 49 مستعمرة عن بريطانيا ،وعدد المستعمرات التي استقلت عن كل اشكال الاستعمار المباشر هي 93، وهو ما يشكل قلقا للنخب الاسرائيلية في ظل ادراك ان كل حملات الاستعمار او الاستيطان في التاريخ العربي مثل الرومان والفرس والمغول والصليبيين والعثمانيين والانجليز والفرنسيين والبرتغال والاسبان انكفأت وانتهت بالفشل …فهل تنجو اسرائيل من هذه الظاهرة؟
ان انتقال ادارة الصراع من ايدي “الرسميين ” العرب الى ايدي القوى الشعبية العربية التي لا تعطل طاقاتها الابداعية حسابات انظمة ما تزال قابعة في انماط القرون الوسطى بنية وعقلا، هو تحول استراتيجي عرفته كل ظواهر الاستعمار الاستيطاني بخاصة التي بقي فيها السكان الاصليون يفوقون خصومهم من المستوطنين في العدد.
ان التغير في بينة النظم السياسية في المنطقة يشكل هاجسا عميقا لاسرائيل، فكما قال احد باحثيهم ” من كان يصدق ان مصر الناصرية ستتحول لذخر استراتيجي لاسرائيل، وايران الشاه التي كانت ذخرنا الاستراتيجي ستكون الأكثر عداء وإيذاءً لنا”؟..انه الشرق الاوسط “العجيب.
فإذا ربطنا ذلك بان اسرائيل لا تمتلك خطة واضحة لتسوية الصراع فهي ترفض حل الدولتين وحل الدولة الواحدة وعجز عن التهجير مما يعني بقاء المسرح مفتوحا للصراع وديمومته.
2- فقدان العمق الاستراتيجي:
يمكن تعريف العمق الاستراتيجي للدولة بأنه ” مصطلح في الأدبيات العسكرية يشير الى المدى المكاني بين الخطوط الأمامية للجيش والمناطق الحيوية ومدى القدرة على الانتشار الجغرافي واتاحة الحركة للقوات العسكرية ومدى المسافة بين المناطق الحيوية ومصادر التهديد الخارجي “، وتفتقر اسرائيل لهذه الجوانب بشكل كبير، فهي كيان يصل عرضه الى 15 كيلومتر( وهو عمق محدود جدا) ثم يتركز حوالي 60% من سكانها واكثر من 75% من مراكزها الصناعية على مساحة لا تمتد اكثر من 100 كيلو متر، وهي مسافة قصيرة جدا في ظل التكنولوجيا الحديثة.
ويبدو ان اسرائيل حاولت الاستعاضة عن فقدان العمق الاستراتيجي بمبدأ “الردع”، وهو مبدأ لم يؤتِ أُكُلَه ،لان المقاومة تعمل من الداخل ومن الحدود ومن مديات جغرافية قصيرة للغاية، وهنا واجهت اسرائيل المأزق، فإذا انسحبت لتتخلص من العبء السكاني الفلسطيني ( حوالي 5.5 مليون في الضفة والقطاع ) فانها ستضيق عمقها الاستراتيجي اكثر، واذا استمرت في الاحتلال فانها ستتحمل عبء السكان من ناحية كما ان التطور التكنولوجي يتجاوز عمقها الاستراتيجي حتى مع استمرار الاحتلال من ناحية ثانية.
3- الحساسية الشديدة تجاه الخسائر البشرية:
يبلغ عدد اليهود في فلسطين المحتلة حوالي 7.4 مليون نسمة ، ولكن اسرائيل تحتل المرتبة الاولى عالميا في مؤشر العسكرة(Militarization index) ، وهو ما يعني امتصاص نسبة عالية من السكان في المؤسسة العسكرية وأجهزة الامن المختلفة، وهو ما جعلها في حاجة مستمرة لايدي عاملة خارجية بخاصة من سكان الاراضي المحتلة ومن الافارقة والاسيويين مؤخرا ، لكنها ترى في ذلك مشكلة أمنية واقتصادية ، ونظرا للتهديد العسكري الذي يشكل سيف ديموقليس فوق رأسها فانها غير قادرة على تحمل الخسائر البشرية ،لان الخسارة تشجع الهجرة من الداخل وتقلص الهجرة القادمة، الى جانب العزوف عن البقاء تحت السلاح لمدة وصلت الآن الى 76 سنة وجعلت اسرائيل تعيش حالة طوارئ بسبب عدم الاستقرار السياسي، ويكفي ان نشير الى أن مؤشر Global Peace index الذي يعتمد 23 معيارا للقياس وضع اسرائيل في المرتبة 155 بين 163 دولة في معدل الاستقرار، اي انها ضمن اسوأ ثمانية دول في العالم ، كما ان عام 2024 جعلها الأعلى في نسبة تراجع معدل الاستقرار.
4- التآكل الهادئ في القبول الدولي لتصرفاتهم السياسية:
لم تعرف اسرائيل تراجعا في درجة التعاطف الدولي معها كما عرفته بعد معركة طوفان الاقصى،فاستطلاعات الراي المتخصصة كشفت عن:
أ- النظرة السلبية للسلوك الاسرائيلي تزايد في 92% من مجتمعات دول العالم.
ب- كلما جرى تصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة على الحقوق الفلسطينية فازت فلسطين على اسرائيل وبفروق قياسية.
ت- عدد المظاهرات المساندة لاسرائيل لا تزيد عن 25% عن عدد المظاهرات ضدها.
ث- ان اهم مؤسستين قضائيتين في النظام الدولي المعاصر(محكمة العدل الدولية، والجنائية الدولية ) أدانتا اسرائيل بشكل واضح وطالبتا باتخاذ اجراءات ضدها.
ج- ان مجموع الادانات الموجهة لاسرائيل من قبل لجان حقوق الانسان والامم المتحدة ومنظمات المجتمع المدني الدولية يفوق مجموع الادانات لبقية دول العالم.
5- استمرار الثقافات الفرعية في البنية الاجتماعية:
رغم بوتقة الصهر(Melting Pot) المنقولة عن النموذج الامريكي، ورغم اعتماد مبدأ العمل العبري ،وتوظيف المؤسسة العسكرية لانجاز مهمة تعميق تصميم ” هوية اسرائيلية” ،إلا ان التشققات داخل المجتمع لا يمكن انكارها، بل وصلت ببعض باحثيهم الى الحديث عن احتمالات الحرب الاهلية ،وهو ما سبق وان قدمنا تفاصيله في دراسة متخصصة في هذا الموضوع، اضافة الى ما شرحناه في دراسة اخرى عن العلاقة بين التشققات في بنية الثقافات الفرعية( ديني وعلماني، شرقي وغربي، ابيض واسود، عربي ويهودي، ..زالخ) وبين السلوك السياسي .وقد لاحظنا ان نسبة الجريمة والمخدرات والبغاء والتهرب من الخدمة العسكرية والامراض النفسية …الخ من الانحرافات الاجتماعية تتركز في شرائح دون غيرها.
ذلك يعني ، ان اسرائيل ليست في وضع زاهٍ كالذي يروج له نيتنياهو، لكن ذلك يجب ان لا يحجب عنا متغيرات القوة التي تتمتع بها اسرائيل .
ثانيا: نقاط القوة:
أ- عمق ارتباطها بقوى الاستعمار وبخاصة القوى الأهم عالميا وهي الولايات المتحدة.
ب- مستوى التطور التكنولوجي المدني والعسكري قياسا لخصومها.
ت- الفطنة الدبلوماسية بخاصة في تعاملها مع بيئاتها الاقليمية والدولية.
ث- التشوه العميق في بنية النظم السياسية الاقليمية من ناحية وتبعيتها العميقة للقوى الاقرب لاسرائيل.
ج- ان كل القوى الكبرى تقر بحق اسرائيل في الوجود
ح- ان نسبة الاعتراف القانوني باسرائيل كدولة تفوق نسبة الاعتراف بفلسطين كدولة.
قد تحتاج الموازنة بين القوة والضعف لشرح طويل طويل طويل، لكني ارى ان اسرائيل موجة وليست شاطئا( بتعبيرات علي شريعتي)، وإذا كانت اسرائيل مؤامرة ، فالتاريخ مليئ بالمؤامرات ،لكن التاريخ نفسه ليس مؤامرة ( من هيغل الى كارل بوبر)، وسيعرف هذا التاريخ يوما كيف يعود لمساره ،وقد فعلها مرات مرات…ربما.